الأربعاء، فبراير 18، 2009

..آخيراً ترجل مؤلف "موسم الهجرة للشمال"

خالد ابواحمد
فجعت الرواية العربية العالمية أمس برحيل أحد روادها الأماجد الأديب العربي الطيب صالح في إحدى مستشفيات العاصمة البريطانية لندن أمس الأول الثلاثاء عن عمر ناهز الثمانون عاماً وتم نقل الجثمان تمهيداً لدفنه بمسقط رأسه قرية (كرمكول) بشمال السودان، بعد حياة حافلة بالريادة والتفرد والتميز في مجال الادب والرواية العربية خاصة، وبرحيله أنطوت صفحة في تاريخ الامة العربية واسلامية وهي تحاول بقوة ارتياد المحافل الدولية عاكسة ما تزخر به المنطقة من أدب رصين حقيق أن يتجاوزها إلى العوالم الأخرى، والأديب الطيب صالح الذي رفع راية الابحار في عالم القصة الواقعية ولد عام (1348هـ - 1929م ) في إقليم مروي شمالي السودان بقرية كَرْمَكوْل بالقرب من قرية دبة الفقراء وهي إحدى قرى قبيلة الركابية التي ينتسب إليها، عاش مطلع حياته وطفولته في ذلك الإقليم, وفي شبابه انتقل إلى الخرطوم لإكمال دراسته فحصل من جامعتها على درجة البكالوريوس في العلوم، ومن ثم سافر إلى إنجلترا حيث واصل دراسته هناك, وغيّر تخصصه إلى دراسة الشؤون الدولية.
والفقيد الأديب صاحب تجربة عالمية في مجال العمل الاعلامي والثقافي على مستوى العالم من خلال أكبر المؤسسات الدولية في هذه المجالات إذ تنقل الطيب صالح بين عدة مواقع مهنية إذ عمل لسنوات طويلة من حياته في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC), وترقى بها حتى وصل إلى منصب مدير قسم الدراما, وبعد استقالته منها عاد إلى السودان وعمل لفترة في الإذاعة السودانية, ثم هاجر إلى دولة قطر وعمل في وزارة إعلامها وكيلاً ومشرفاً على أجهزتها، عمل بعد ذلك مديراً إقليمياً بمنظمة اليونيسكو في باريس, وعمل ممثلاً لهذه المنظمة في الخليج العربي. ويمكن القول أن حالة الترحال والتنقل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب أكسبته خبرة واسعة بأحوال الحياة والعالم وأهم من ذلك أحوال أمته وقضاياها وهو ما وظفه في كتاباته وأعماله الروائية وخاصة روايته العالمية "موسم الهجرة إلى الشمال".
تطرقت كتابات أديبنا بصورة عامة إلى السياسة، والى مواضيع اخرى متعلقة بالاستعمار، الجنس والمجتمع العربي، في اعقاب سكنه لسنوات طويلة في بريطانيا فان كتابته تتطرق إلى الاختلافات بين الحضارتين الغربية والشرقية، الطيب صالح معروف كأحد أشهر الكتاب في يومنا هذا، لا سيما بسبب قصصه القصيرة، التي تقف في صف واحد مع جبران خليل جبران، طه حسين ونجيب محفوظ، كتب عدداً هائلاً من المقالات في مجلات وصحف عديدة تناولت هذه الكتابات عموم قضايا الأمة العربية والاسلامية وغلب عليها الجانب الروائي، وغلبت على اعماله التواضع في مخاطبة القراء إذ اشتهر باستخدام اللغة السلسة العربية التي يفهمها كل القراء على السواء ومن كل الشرائح العمرية، وهذا في نظري ما جعل لأدب الطيب صالح عموماًً أرضية واسعة في التعاطي مع كل ما ينتجه من أعمال.
كتب الطيب صالح العديد من الروايات التي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة حسب موسوعة وكيبيديا الحرة وهي « موسم الهجرة إلى الشمال» و«عرس الزين» و«مريود» و«ضو البيت» و«دومة ود حامد» و«منسى»، تعتبر روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" واحدة من أفضل مائة رواية في العالم وقد حصلت على العديد من الجوائز، وقد نشرت لأول مرة في اواخر الستينات من القرن ال-20 في بيروت وتم تتويجه ك"عبقري الادب العربي".
في عام 2001 تم الاعتراف بكتابه على يد الاكاديميا العربية في دمشق على انه "الرواية العربية الأفضل في القرن ال-20) أصدر الطيب صالح ثلاث روايات وعدة مجموعات قصصية قصيرة. روايته "عرس الزين" حولت إلى دراما في ليبيا ولفيلم سينمائي من اخراج المخرج الكويتي خالد صديق في أواخر السبعينات حيث فاز في مهرجان كان، في مجال الصحافة، كتب الطيب صالح خلال عشرة أعوام عمودا أسبوعيا في صحيفة لندنية تصدر بالعربية تحت اسم "المجلة"، خلال عمله في هيئة الاذاعة البريطانية تطرق الطيب صالح إلى مواضيع أدبية متنوعة، منذ عشرة أعوام يعيش في باريس حيث يتنقل بين مهن مختلفة، اخرها كان عمله كممثل اليونسكو لدول الخليج.
والطيب صالح كما عرف عنه اعتزازه بأمته العربية والاسلامية وفي محاضرة له في القاهرة اكتوبر 1995م قال "يجب أن أعترف أني حقيقة عاشق للأمة العربية، دائما عندنا هذا الإحساس العميق بانتمائنا للأمة العربية دماً وفكراً وديناً، كنا نظن أننا في السودان العرب الوحيدين في العالم".
وفي اجابته على سؤال أحد الصحافيين قال الأديب الطيب صالح" فكرة أن الأمة ماتت، هذا تشاؤم لا مبرر له، لا توجد أمة تموت، هذه الأمة لو كان لها أن تموت لماتت منذ زمن طويل لأنه تعرضت لهزات شديدة، وعندما نقراء تاريخ أوروبا كل الذي نراه عنها من تطور عمره أقل من قرن، ونحن عندما نرى الغرب وكل هذا الجبروت الصناعي والحربي والطيارات، نعتقد بنفتكر أن الإنسان الأوروبي والغربي نزل من السماء، لكنني أراهم بشر عاديين مثلنا تماماً، بل لعلنا من ناحية الذكاء الفردي والقدرة على الإبداع أكثر منهم إبداعا، الموضوع كله إننا تعرضنا إلى تجارب مريرة.. يعني يدوب تنفسنا الصعداء بعد الحكم العثماني.. جاءنا الاستعمار الغربي، يا دوب تحررنا من الاستعمار الغربي وما عرفنا نلقط نفسنا، جاءوا إلينا بإسرائيل، لكننا واجهنا قضايا كونية ضخمة ولم نكن مستعدين لها.. والأمة في حالة من البلبلة، لكن هذا لا يعني بأنها أمة ميتة إطلاقا، هذه أمة حيّة، أنا أظن- وهذا إحساسي من مشاهداتي- حين تجد الأمة المفتاح، يمكنها أن تحدث انطلاقة وقفزة كبيرة جداً هذه أمة قفزات". والفقيد الطيب صالح ..نعم هو سوداني إلا أنه عاش لأمته ولكيانه الكبير وعمل من أجل رفاهية الأمة وتطورها وعندما فاز بجائزة الأدب العربي أهداها للأمة العربية باعتباره ابناً لها ككيان كبير لها مكانته بين الأمم، تحمل بين طياتها رسالة للعالمين ملؤها التسامح والتعاون على البر والخيرات.
رحم الله أديبنا الطيب صالح رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء، وجزاه بكل حرف كتبه حسنة وخطوة الى الفراديس العُلى، ونفع بأدبه وتراثه الأمة وشبابها، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ليست هناك تعليقات: