الثلاثاء، فبراير 24، 2009

الطيب مصطفى والقرون الوسطى ..(2)

قلنا في المقال السابق أن الأخ الطيب مصطفى يريد العودة بنا إلى القرون الوسطى، عهود الظلم والظلمات وكبت الحريات وانتقاص الحقوق التي كفلتها كل الشرائع الإلهية والمواثيق الدولية، يعود بنا إلى تلك الفترة ونحن في بدايات الألفية الثالثة، حيث مشاريع الوحدة هنا وهناك تُدهش البشر، كيف وأن دول الاتحاد الأوربي التي عاشت سنين أريقت فيها الدماء ومات فيها الملايين من البشر في حربين عالميتين حرقت الأخضر واليابس، توحدت برغم المآسي والجراح الكبيرة، وبرغم اختلاف اللغات والثقافات والسُحنات، مستفيدة من البنيات الاقتصاد المختلفة، والموارد البشرية والمالية الضخمة، وكانت الوحدة مذهلة للمراقبين، أنستهم مخلفات وكوارث القرون الوسطى والحربين العالميتين الأولى والثانية.
ولاستمرار الوحدة بين دول هذا الشتات تحملت الشعوب الأوربية الكثير من الضرائب التي أرهقتهم، فمثلاً حتى تتفاهم مع بعضها البعض وحتى تقيم المؤسسات المشتركة لا بد أن تنعقد المؤتمرات والمنتديات وورش العمل، كان المواطن الأوربي في سنين الاتحاد الأولى يدفع من دم قلبه الملايين من الجنيهات لترجمة كل ما قيل في هذه الاجتماعات، تصور أخي القاري أن إدارة الاتحاد الأوربي في بروكسل العاصمة البلجيكية تترجم يوميا ألاف الوثائق من لغات مختلفة الهولندية والفرنسية والانجليزية والألمانية والأسبانية والايطالية الخ وبالعكس..!!.

وكأنني بهذه الدول قد فهمت معنى الآية الكريمة:
"وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون". آل عمران.
وجاء الحديث النبوي الشريف ليؤكد على معاني العيش بسلام بدون كراهية وحقد وبغضاء.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا وكُونوا عِباد الله إخوانا).
بينما يريد الأخ الطيب مصطفى وزمرته انفصال وطن واحد يفهم بعضه البعض بدون تراجم، ويطلب منا جميعاً أن نُعطل عقولنا التي حبانا بها الخالق عز وجل دون سائر مخلوقاته، وأن نطلق لعواطفنا العنان في معالجة الإشكالات الراهنة وهي ليست إشكاليات فرد وأسرة بل هي قضايا أمة لها تاريخ مؤغل في القدم وينتظرها مستقبل مشرق، فليس من الحكمة أن نعمل بكل قوانا لزرع الكراهية والحقد بين أبناء الوطن الواحد بحيث نطلب الانفصال عن تلك الأرض التي فقدنا فيها فلذات أكبادنا حتى نُرضى عصبيتنا وجهويتنا وكبرياءنا الزائف.!!. وفي القُرون الوُسطى كان هناك مناضل عريق هو (سافونارولا) كشف لنا عن حقيقة أساسية في معنى التعصُب والتسامُح هي أن السبب الرئيسي في التعصب الديني من قبل الحُكام ورجال الدين، إنما كان للحصول على المغانم والمكاسب المادية والتخلص من الخصوم السياسيين وسائر الذين يقفون في طريق أصحاب هذه المغانم وهذه المكاسب..!. وفي كتابه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) يذكرنا الكاتب جورج جُرداق بسيرة (سافونارولا) وسيرة خصومه في هذا المقام بأخبار التناحر والتقاتل في تاريخنا العربي وقد شاء المؤرخون أن يخلعوا عليها طابعاً دينياً أو طائفياً خالصاًً، وهي في حقيقتها معارك قامت على منافع مادية ومكاسب اقتصادية كانت كلها من نصيب الملوك والأمراء وأعوانهم من رجال الدين يستولون عليها باسم (المحافظة) على الإيمان و(خير) المؤمنين..!. والراهب الانجليزي الدكتور جون ويكليف كان من أنصار الحرية في زمانه، وكان رجلاً طيب القلب كريم الخُلق قوي التفكير مُحباً للشعب قال:
"إن الناس يجب أن يطلعوا بأنفسهم على التوراة لا بواسطة رجال الدين وأن رجال الدين هؤلاء يعيشون عيشة بذخ وفُسق والناس في جحيم من الفاقة وإنهم يريدون أن لا يكون في انجلترا شيء اسمه (الرأي العام) وهو يريد ذلك".
عندما ينتقد الطيب مصطفى عبارات مسيحية على إحدى الصفحات فإنه يحاول تجّييش الناس ضد الصحيفة التي كسبت وتكسب يومياً أصحاب العقول الواعية، ما يشير بوضوح شديد إلى أن الخوف من ثقافة الآخر في العادة ينتج عن ضعف في مستوى التدين وفي ضعف مفهوم الدين لدى صاحبه، ما يعني ضعف التلقي المعرفي العام ليس بالدين فحسب بل بتاريخ وسمات الشخصية السودانية.!. وفي كتابه (عاشق لعار التاريخ) يقول الكاتب السعودي عبد الله القصيمي " أن أشد الناس خوفاً من الحرية والتطور هم الذين انتصروا بالمؤامرات، وهم الذين ارتفعوا فوق أكتاف التاريخ بالقفز عليه في الظلام".
ويقول في مكان آخر من الكتاب " إن الثوار لا يمكن أن يصنعوا الحرية، إنهم أبدا خصومها، و لكن الحرية تحفر طريقها بلا تشريع ولا ثورة، كما يحفر النهر مجراه بمواصلته السير في جوف الصخور والتراب وبمقاومته الطبيعة، أن الحرية لا توجد بالإرادة أو الخطة أو الأمر، أن الحرية توجد بالتعامل مع الأشياء الصعبة والمتناقضة والمضادة".

في الدُول العلمانية التي يمثل فيها المسلمين الأقلية تنداح الثقافة المسيحية في كل مكان في البيت والشارع والأجهزة الإعلامية، وفي كافة الدوائر التي يرتادها البشر، لم يتزعزع إيمان المسلمين بدينهم ومعتقدهم لأن ثقافة المسيح تطاردهم في كل مكان، بل يحصل العكس تماماً أن تدين المسلمين يزداد ترسيخاً في دواخلهم مع الاعتزاز بالانتماء لهذا الدين العظيم الذي يحتل الوجدان ويقبع في أعمق مكان للإحساس بحلاوة الإيمان، فلماذا يعتبر الأخ الطيب مصطفى أن بضعة آيات من الإنجيل في صفحة أسبوعية تعكس نبض المسيحيين في الخرطوم مُهدداً لوجود الإسلام في السودان..؟!.
في دول مثل ألمانيا وفرنسا تدين بالمسيحية، أسلم فيها أكثر من 6 ألف شخص ما بين عامي 2006-2007م ولم تنزعج الصحافة هناك لأن جزء عزيز من أبناء البلد قد فارق دين آبائهم وأجدادهم، ولم تقرع طبول الحرب ولم تطالب بطرد المسلمين من أراضيها.
إذاً، الاستدلال بصفحة (أجراس الكنائس) لمخاطبة عقول ضعيفة تصدق أن الصحيفة تقوم بالتبشير لدين هو مكان احترام وتقدير كل السودانيين، يعبر عن هزيمة نفسية للفكر الذي يحمله الأخ الطيب، لكن المعنى العميق في المسألة أن صاحبنا لم يتمالك نفسه بحصول هذه الصحيفة على سبق صحفي ومهني كبير يضاف إلى رصيدها أن أصبحت أول صحيفة سودانية ناطقة باللغة العربية تخصص صفحة لرصد الحراك المسيحي في البلاد وعكسه للقراء الكرام، في ظل وجود ملايين من المسيحيين بين ظهرانينا.
الطيب مصطفى يعلن أنه يمتلك (الحقيقة) وأن الآخرين رعاع لا يفقهون شيئاً، وفي يقيني هذا أمر مؤسف يمثل أسلوب غير مُتزن يمارسه الذين يجهلون كينونة الصراع من أجل البقاء، كما يجهلون ما يحدث على أرض الواقع في الوقت الراهن،ولعل تجربة الاتحاد السوفيتي خير مثال، فبانهيار الدولة التي كانت تقول أن (الحقيقة) عندي وحدي، انهار المجتمع وتحولت البلاد إلى مجموعات من المافيا وتُجار السلاح وشركات تجارة الجنس، ولم يتمكن المجتمع المقولب حكومياً من مواجهة الكارثة فتفرقت البلاد إلى جمهوريات أيدي سبأ، فلماذا يريد صاحبنا تكرار هذه التجربة الماثلة أمامنا والتي عشناها بكل ما فينا من جوارح..!.

وعندما نتحدث عن رفض الطيب مصطفى لإندياح الحريات الصحفية والإعلامية والتعبير الحر عن الذات( وهو رفض مبطن) نتذكر قصة اغتيال الإمام النسائي على منبر دمشق عاصمة الأمويين، ومن المؤرخين من يقول أنه دفن في مكة ومنهم من يقول انه دفن في الرملة فحتى قبر هذه القامة العلمية في ظل هرجلة الإسلام السياسي الأموي لا يعرف مكانه على وجه الدقة، ففاجعة الإمام النسائي قد تنفع الباحث المنصف كنقطة للبحث لمعرفة نفسية وعقلية الدولة الأموية التي يسير على منوالها الأخ الطيب وأعضاء منبره.
أستاذ الإنسانية الإمام علي كرم الله وجهه رابع الخلفاء الراشدين يقول "الحاكم والد والرعية أبناءه" و "ما جاع فقير إلا بما متع به غني" و " الفقير غريب في وطنه" و "لو كان الفقر رجلاً لقتلته" و "خير البلاد ما حملك"، وقوله الأخير جعلني أفكر لماذا هاجر السودانيون حتى إلى إسرائيل..؟ أليس الوصايا على الآخرين هي السبب، وجعل الناس تعيش بلا حرية ممارسة الفعل البشري التلقائي، لأن المركز يريد للآخرين كما يُشرع لذلك الأخ الطيب ممارسة فعلهم اليومي من خلال موافق قيادة المركز، وبما يراه المركز، ولذا أقول أنه حينما تفرض الوصاية على العقول من أي جهة ستكون مناهج الفكر أموية، ومعايير البحث عباسية، وهذا هو ما ضرب الإسلام في مقتل.
في كتابه القيّم الذي شغل المُفكرين والعُلماء (جدلية الغيب والطبيعة: العالمية الثانية للإسلام) صفحة 248 يقول المفكر السوداني المرحوم أبو القاسم حاج حمد " إن تلبس الإنسان بحالة القوة الذاتية في الفعل سرعان ما تنسج حول الإنسان شعوراً بمطلقه الذاتي، ثم ينعكس هذا المطلق الذاتي على علاقته بالطبيعة وبالمجتمع، فيحل الصراع بديلاً عن السلام، والانقسام بديلاً عن الوحدة، ولا يصبح ثمة معنى للوحدة والسلام إلا في حدود المنفعة الموضعية لحركة المطلق الإنساني الذاتي.. القبيلة والطبقة، وهذه الأشكال المختلفة التي تتكاثر على مستوى الانقسام والصراع والأخلاق، فكل تركيب كوني يفقد معناه الطبيعي وروحه الايجابية فيتحول إلى المعنى الذي يعطيه له الإنسان من خلال شعوره المطلق الذاتي، هنا يغيب الله عن الوعي وتغيب حكمته في النسج الكوني فماذا تكون النتائج الحضارية؟ ماذا تكون نتيجة إهمال هذه المعاني؟".
والنتيجة واضحة للجميع تمرد السودانيين بكل سحناتهم واتجاهاتهم على المركز لكن الأخ الطيب مصطفى لا يريد الاعتراف بعمله في إشعال نار الصراع بديلاً عن السلام، والانقسام بديلاً عن الوحدة.

ليست هناك تعليقات: