الثلاثاء، فبراير 24، 2009

الطيب مصطفى والعصور الوسطى..!!. (1)

ثمة إحساس بالحزن والألم والمرارة ألم بي بعد اطلاعي على آخر مقال للأستاذ الأخ الطيب مصطفى أشعرني بأن الرجل يريد لنا العودة إلى العصور الوسطى التي تمثلت فيها عهود الظلم بكل أشكاله وأنواعه، فمجتمعها إقطاعي طبقي مغرق في الإقطاعية والطبقية، متعصب شديد التعصب يرفض حرية التعبير عن الذات وعن الحاجات الكامنة في النفس البشرية التي خلقها الله وفطرها بها، ويأبى للناس أن يطلقوا لأنفسهم حرية التفكير المستقل من أجل الرقي بحياتهم.
والمقال الذي كتبه الأخ الطيب مصطفى قد غلبت عليه الأخطاء الطباعية قرابة العشرون خطاءً الأمر الذي يشير بوضوح شديد إلى إرسال المقال قبل التريث في قراءته والتمعن في معانيه ومراميه، ومعرفة أين تكمن الأخطاء والعِلل، ومن ثم معالجتها الكترونياً، ما يؤكد أن الرجل يستعجل في حكمه على مواقف الناس، و في عدم إدراكه لما يقول، وإطلاقه لإتهامات لا ترتبط للواقع بصلة.
يعكس هذا التصرف أيضاً الاضطراب النفسي الذي يعانيه الرجل، فليس من الحكمة أبداً أن يكتب صاحب مشروع انفصالي كبير دون أن يقوم بالتدقيق والشذيب بل والتريث في إطلاق الأحكام على الآخرين، وموقف العقيدة التي يدين بها ويدعي الدفاع عنها ضد مما اسماهم بكُتاب (المارينز) فالإناء ينضح بما فيه كما وضح المقال ذلك.
في كتابه الذائع الصيت (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) الذي تُرجم إلى عدد من لغات العالم وهو أكثر الكتب العربية انتشاراً في العقد الأخير كون كاتبه مسيحي لبناني وليس مُسلماً، هو الكاتب الفذ جورج جُرداق (توفي قبل ثلاث سنوات)، وعندما يكتب مسيحي عن سيدنا علي (كرم الله وجهه) في مجلدين من الحجم الكبير عن الفكر الذي جاء به الإسلام من خلال ترجمة لأفعال خليفة المسلمين الراشد، يعني أن المسلمين لم يدركوا بعد حقيقة مبادئ حقوق الإنسان كما جاء بها الإسلام، وكما هو معروف أن الأمم المتحدة قد استمدت لوائح ونظم حقوق الإنسان من فكر سيدنا علي بن أبي طالب سليل بيت النبوءة، فالسؤال الذي يطرح نفسه ما هي منطلقات الأخ الطيب مصطفى..؟؟ إلا أن يكون يرغب حقيقة في الرجوع بنا إلى العصور الوسطى في القارة الأوربية.

ففي العصور الوسطى...
يمنع الإنسان من حقه في الخبز ويُحرم عليه التفكير الحُر والمُعتقد الحُر, ويُعاقب على طلب الخُبز والحُرية بالقتل والحرق لا رحمة في عقابه ولا هُوادة، فإنسانيات هذه القرون من ثم دون الإنسانيات القديمة في هذا المجال.
و بقدر ما كانت زمرة الأغبياء مكرهة للنفوس وخُزياً على وجه تلك العصور, كان المارقُون والمتمردُون حباً في القلوب ونُوراً في العقول وصفاء في الضمائر وجمالاً على صفحة التاريخ.. أجل, إنهم المارقون.. المتمردون.. كتاب (المارينز) القدامى..!!.
في القرون الوسطى..
كان ملوك ذلك الزمان وشركاؤهم الجهلة والمجرمون والمتسترون بغشاء الدفاع عن الدين يسنون قوانين ظالمة للحد البعيد من أجل القضاء على هؤلاء المفكرين, بعد تعذيبهم والتنكيل بهم, فقد عودنا منطق التاريخ والجغرافية وقد أصبحت قاعدة ثابتة لا تتحرك مهما كانت الأحوال، ومهما بلغ مستوى التعسف العسكري والأمني والضغط النفسي والاقتصادي إن المفكر لن يرهب الظالم, والعالِم لن يستسلم للجاهل, والقيمة الإنسانية الحقيقية لن تغمرها مكايد المحتالين وصغار أهل النفاق.
ففيما كانت الإمبراطوريات الأوروبية في القرون الوسطى تعاقب المارقين بمصادرة الأملاك, فالسجن, فالتعذيب, فالحرق بالنار, كان هؤلاء المارقون من فلاحي نورماندي بفرنسا, ومن الشعراء والأدباء, ينشدون هذه الأغنية بصوت ظل يدوي حتى بلغ مسامعنا اليوم, قائلين:
إننا رجال مثلهم.. لنا من الأعضاء مثل مالهم, ومن الأجسام مثل أجسامهم. ومن القلوب النبيلة فوق ما عندهم !..
ويذكر الكاتب جورج جرداق " أن المارقين جميعاً كانوا من شُرفاء الخلق وعظماء الفكر, ومن المتمردين على المظالم وعشاق الحرية, ومنكري الأذى والنكال, ومن الذين اتصلت بهم حلقات التمهيد إلى إعلان حقوق الإنسان".
فالشاعر الفرنسي العظيم فرنسوا فيللون أحد أبطال الحب والحرية في تاريخ البشر، كان مارقاً في قانون ذوي الأقنعة السوداء وأصحاب التاج والصولجان في القرون الوسطى، لذلك عاش طريد القانون مُشرداً في كل أرض لا يحتويه مكان، وقد صدر ضده أكثر من ستين حكماً تتراوح بين النفي، والسجن، والسجن المؤبد، والتعذيب، والقتل بالسيف، والحرق بالنار، ولكنه أفلت من قبضات الماكرين وظل تائهاً ينشد الحب والحرية والمساواة بين الناس وسحق التعصب بكل ألوانه، كما ظل يدعو إلى وثبة العدالة والحياة ضد الجور والموت إلى أن انتهى عمره القصير وهو في شرخ شبابه، في الرابعة والثلاثين من عمره.
وفي أواخر القرن الثاني عشر ظهر في مقاطعة بريتانيا بفرنسا مفكران مصلحان أولهما يدعى أموري ألبيناوي، وثانيهما داود الدنيانتي وهو تلميذ الأول ورفيقه وقد هاجم هذان المفكران تعاليم رجال الدين القاضية بأن يبقى الشعب في غفلة عن حقوقه في حرية الفكر وحرية العيش، وبأن يبقى أبناؤه عبيداً لهم وللأشراف والأمراء الأغبياء فما كان من رجال الدين إلى أن ألفوا محكمة عاجلة لمحاكمتهما ومحاكمة أتباعهما دفعة واحدة، وكان الحكم قاهراً وكانت العقوبة صارمة قاسية، وقد حمل أتباع الرجلين إلى ساحة النار..!.
أما المفكران المصلحان فقد فرا طلباً للنجاة، ولكن انتقام رجال الدين في تلك العصور كان أوسع من أن يفلت منه الإنسان حياً أو ميتاً، فإنهم ترقبوا موت الرجلين الكريمين، فنبشوا قبرهما وأحرقوا رفاتهما..!!.
ولكن هل خلت هذه الظلمات من شهب تتوامض في دياجيرها السُود فتمزقها ولو إلى حين..؟، وهل استسلم الإنسان في أوربا مُطلقاً لمخزيات الطبقية والإقطاعية والعصبية الحمقاء..؟، وهل خمدت الحياة في الأحياء وانطفأ تأججها فسكنت وسكن الناس، فما من ثائر لحق ولا من مُتمرد على وحاقة وظلم..؟، وهل تفككت السلسلة التي صيغت حلقاتها بنور الأذهان والقلوب وحُميت بالدماء والتضحيات منذ كان الإنسان الاجتماعي الأول حتى هذه الصفحات من تاريخ البشرية..؟. وهل انقطعت الطرق التي سار فيها الإنسان السابق في كيان أخيه اللاحق، لتدله على أنه (إنسان) وعلى أن له حقوقاً عليه أن يطلبها بعنا وإصرار.؟.
بكل تأكيد أن الحياة لم تخمد ولن تخمد وفي يقيني التام أن كُتاب (أجراس الحرية) في طريق الإمام أبا حنيفة الذي قتل بسبب آراءه التي لم يتحمل وقعها القوي الحاكم المسلم آنذاك، وهم سائرون على طريق (أموري ألبيناوي) و (داود الدنيانتي) وأن إتحادهم في إصدار هذه الصحيفة لهو إعلان جديد لحقوق الإنسان السوداني أين ما وجد وكيف ما كان لونه وعقيدته وما يحمله من أفكار.
والناظر لكُتاب هذه الصحيفة يجد إنهم من أصحاب التجارب الفكرية والسياسية والاجتماعية، منهم من صال وجال في ميادين الحركة الإسلامية مفكراً خبيراً في المنابر الفكرية والسياسية ومسؤولاً عن مكتب قائد الحركة وكان من نجومها، بارعاً في ارتياد المناقشات الدينية ذات العمق الفكري والعملي، ومنهم من قارع السلاح مقاتلاً عن وعي وبحنكة، برغم الشهادات الأكاديمية العليا إلا المسئولية وضعته في هذا الموقع، ومنهم من تنقل من فكر سياسي محض إلى فكر سياسي عقدي، ومنهم من قارع أمهات الكتب والمراجع، وعندما ألفت نظر القارئ الكريم لهذه النقطة فإنني أشير بذلك إلى تجربتي الشخصية وكيف أنني استفدت منها أيما استفادة في حياتي الجديدة التي جعلتني ألم بتجارب الآخرين ومكنتني من (الرجوع) إلى الكتاب والتزود بالمعرفة، إذاً فإن المثل السوداني القائل (أسأل مجرب ولا تسأل طبيب" يعني أن أصحاب التجارب عموماً هم الأكثر قدرة من غيرهم رداً على علامات الاستفهام الكبيرة وفك الطلاسم التي تحير صاحبها وتدخله في نفق ضيق، وكذلك هم الأقدر على تفهم حاجات الإنسان السوداني، ولذا أقول أن كُتاب (أجراس الحرية) وهم قادرين بتجاربهم وعصارة فكرهم على تجسيد الحل الذي ينتظره جميع السودانيين المتمثل في التعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد.
وإذا كان الأخ الكريم الطيب مصطفى يريد لنا العودة إلى القرون الوسطى وما فيها من أساليب للتعامل مع الرعية فإن هذا الحل ما عاد مطروحاً في الوقت الحالي، الأمر الذي جعل الجغرافية السودانية بكل اتجاهاتها وتلاوينها السياسية والثقافية تتمرد على المركز، لكن الذي آلمني ويؤلمني أن الأخ الطيب مصطفى ومن يمثلهم لم يجتهد في الإجابة على السؤال ..لماذا تمرد الكل على المركز..؟؟ حتى على مستوى الشرائح المهنية، فإن حاملي مشاعل الوعي و النور هم خارج دائرة المركز إلا من توجس خيفة من إلصاق تهمة (الطابور الخامس)، أما الآخرون فهم من فاقدي الموهبة والضمير، وهناك قائمة طويلة بالديباجات وقد استخدم منها رئيس منبر الشمال (المارينز) لكتاب هذه الصحيفة فقط لأنهم يختلفون معه في الرأي.
وتجربتي الشخصية تؤكد أن (الاختلاف) في الرأي بالنسبة لحكام المركز يمثل خطاً (أحمر) لا ينبغي تجاوزه ضربا على الحائط بكل مفاهيم الإسلام التي تحث على أن (أمرهم شورى بينهم).

ليست هناك تعليقات: